فصل: تفسير الآيات (62- 64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا}:
هي مِنْ رأى البصَريةِ فَلَمَّا دخلَتْ همزةُ النقل تَعَدتْ بها إلى اثنين أولُهما الهاء، والثاني {آياتِنا}، والمعنى: أَبْصَرْناه. والإِضافةُ هنا قائمةٌ مقامَ التعريفِ العَهْدي أي: الآياتِ المعروفةَ كالعصا واليد ونحوهما، وإلاَّ فلم يُرِ اللهُ تعالى فرعونَ جميعَ ِآياتِه. وجَوَّز الزمخشري أن يُرادَ بها الآياتُ على العموم بمعنى: أنَّ موسى عليه السلام أراه الآياتِ التي بُعِث بها وعَدَّد عليه الآياتِ التي جاءَتْ بها الرسلُ قبله عليهم السلام، وهو نبيٌّ صادقٌ، لا فرقَ بين ما يُخْبِرُ عنه وبين ما يُشاهَدُ به.
قال الشيخ: وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ الإِخبارَ بالشيءِ لا يُسَمَّى رؤيةً له إلاَّ بمجازٍ بعيد. وقيل: بل الرؤيةُ هنا رؤيةٌ قلبيةٌ، فالمعنى: أَعْلَمْناه وأيَّد ذلك: بأنه لم يكن أراه إلاَّ اليدَ والعصا فقط. ومَنْ جَوَّز استعمالَ اللفظِ في حقيقتِه ومجازِه أو إعمالَ المشتركِ في معنَيَيْه يجيزُ يُرادَ المعنيان جميعًا. وتأكيدُه للآيات ب {كلَّها} يدلُّ على إرادةِ العمومِ لأنَّهم قالوا: فائدةٌ التوكيدِ بكل وأخواتِها رَفْعُ تَوَهُّمِ وَضْعِ الأخَصِّ مَوْضعَ الأعمِّ، فلا يُدَّعَى أنه أراد بالآياتِ آياتٍ مخصوصةً، وهذا يتمشى على أن الرؤيةَ قلبيةٌ، ويُراد بالآيات ما يَدُلُّ على وَحْدانيةِ الله وصِدْقِ المبلِّغ. ولم يذكر معفولَ التكذيب والإِباءِ تعظيمًا له، وهو معلومٌ.
قوله: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ}:
جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: واللهِ لَنَأْتِيَنَّك. وقوله: {بسِحْرٍ} يجوز أن يتعلَّقَ بالإِتيان، وهذا هو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ الإِتيان أي: ملتبسين بسِحْرٍ.
قوله: {مَوْعِدًا} يجوز أن يكونَ زمانًا. ويُرَجِّحه قولُه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} والمعنى: عَيَّن لنا وقتَ اجتماع؛ ولذلك أجابهم بقوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة}. وضَعَّفوا هذا: بأنه يَنْبُوا عنه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ}، وبقوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ}. وأجاب عن قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ} بأنَّ المعنى: لا نُخْلِفُ الوقتَ في الاجتماع. ويجوز أن يكون مكانًا. والمعنى: بَيِّنْ لنا مكانًا معلومًا نعرفه نحن وأنت... ويُؤَيَّدُ بقوله: {مَكَانًا سُوًى} قال: فهذا يَدُلُّ على أنه مكانٌ، وهذا يَنْبُوْ عه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة}.
ويجوز أَنْ يكونَ مصدرًا، ويؤيِّد هذا قولُه: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} لأنَّ المواعدَة تُوْصَفُ بالخُلْفِ وعدمِه. وإلى هذا نحا جماعةٌ مختارين له. ورُدَّ عليهم بقولِه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} فإنه لا يطابقه.
وقال الزمخشري: إنْ جَعَلْتَه زمانًا نظرًا في أن قولَه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} مطابقٌ له لَزِمك شيئان: أن تجعلَ الزمان مُخْلَفًا، وأن يَعْضُلَ عليك ناصبٌ {مكانًا}، وإن جَعَلْتَه مكانًا لقوله: {مَكَانًا سُوى} لَزِمك أيضًا أَنْ تُوْقِعَ الإِخلاف على المكان، وأن لا يطابِقَ قولَه موعدُكم يومُ الزينة، وقرءةُ الحسن غيرُ مطابقةٍ له زمانًا ومكانًا جميعًا لأنَّه قرأ {يومَ الزينة} بالنصب، فبقي أن يُجْعل مصدرًا بمعنى الوَعْدِ، ويقدَّرَ مضافٌ محذوفٌ أي: مكان الوعد، ويُجْعلَ ضميرُ في {نُخلِفُه} للموعِد، و{مكانًا}، بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: فكيف طابقه قولُه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة}، ولابد من أن تجعلَه زمانًا، والسؤالُ واقعٌ عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابقٌ معنىً، وإن لم يطابقْه لفظًا؛ لأنهم لابد لهم أن يجتمعوا يومَ الزينة في مكانٍ بعينه مُشْتَهِرٍ باجتماعِهم فيه في ذلك الزمان. فبذِكْر الزمانِ عُلِمَ المكانُ. وأما قراءةُ الحسنِ فالموعدُ فيها مصدرٌ لا غيرَ. والمعنى: إنجازُ وعدِكم يومَ الزينة، وطابقَ هذا أيضًا من طريق المعنى. ويجوز أن لا يُقَدَّرَ مضافٌ محذوف، ويكون المعنى: اجعل بيننا وبينك وعدًا لا نُخْلفه.
وقال أبو البقاء: هو هنا مصدر لقوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ}.
والجَعْل هنا بمعنى التصيير. ومَوْعِدًا مفعولٌ أولُ والظرفُ هو الثاني. والجملةُ مِنْ قوله: {لا نُخْلِفُه} صفةٌ لموعدًا. و{نحن} توكيدٌ مُصَحِّحٌ للعطفِ على الضميرِ المرفوعِ المستترِ في {نُخْلفه} و{مكانًا} بدلٌ من المكان المحذوف كما قرره الزمخشري. وجَوَّز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصِبَ {مكانًا} على المفعول الثاني ل {اجعَلْ} قال: {ومَوْعدًا} على هذا مكانٌ أيضًا، ولا ينتصِبُ ب مَوْعد لأنه مصدرٌ قد وُصِف يعني أنه يَصِحُّ نصبُه مفعولًا ثانيًا، ولكنْ بشرطِ أن يكونَ المَوْعِدُ بمعنى المكان؛ ليتطابقَ المبتدأُ أو الخبرُ في الأصل.
وقوله: ولا ينتصِبُ بالمصدر يعني أنه لا يجوزُ أن يُدَّعَى انتصابُ {مكانًا} ب مَوْعد. والمرادُ بالموعد المصدرُ وإنْ كان جائزًا مِنْ جهة المعنى؛ لأنَّ الصناعةَ تَأباه وهو وصفُ المصدرِ، والمصدرُ شرطُ إعمالِه عَدَمُ وصفِه قبل العملِ عند الجمهور.
وهذا الذي منعه الفارسيُّ وأبو البقاء، جَوَّزه الزمخشريُّ وبدأ به فقال: فإن قلتَ: فبمَ ينتَصِبُ مكانًا؟ قلت: بالمصدرِ، أو بما يَدُلُّ عليه المصدر. فإنْ قلت: كيف يطابقُه الجوابُ؟ قلت: أمَّا على قراءةِ الحسن فظاهرٌ، وأمَّا على قراءةِ العامَّةِ فعلى تقدير: وَعْدُكم وَعْدُ يومِ الزينة.
قال الشيخ: وقوله: إنَّ مكانًا ينتصب بالمصدر ليس بجائزٍ؛ لأنه قد وُصِف قبل العملِ بقوله: {لا نُخْلِفُه} وهو موصولٌ، والمصدر إذا وُصِفَ قبل العملِ لم يَجُزْ أَنْ يعملَ عندهم. قلت: الظروفَ والمجروراتُ يُتَّسعُ فيها ما لم يُتَّسَعْ في غيرِها. وفي المسألة خلافٌ مشهورٌ وأبو القاسم نحا إلى جواز ذلك.
وجعل الحوفيُّ انتصابَ {مكانًا} على الظرف، وانتصابَه ب {اجعل}. فتحصَّل في نصبِ {مكانًا} خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنه بدلٌ مِنْ {مكانًا} المحذوفِ. الثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ للجَعْل. الثالث: أنه نُصِب بإضمار فعل. الرابع: أنه منصوبٌ بنفس المصدر. الخامس: أنه منصوبٌ على الظرف بنفس {اجْعَلْ}.
وقرأ أبو جعفرٍ وشيبةُ {لا نُخْلِفْه} بالجزم على جوابِ الأمر، والعامَّةُ بالرفع على الصفةِ لِمَوْعِد، كما تقدَّم.
وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والحسن {سُوَىً} بضم السينِ منونًا وصلًا. والباقون بكسرِها. فالكسرُ والضمُّ على أنها صفةٌ بمعنى مكانٍ عَدْلٍ، إلا أنَّ الصفةَ على فُعَلٍ كثيرةٌ نحو: لُبَد وحُطَم، وقليلةٌ على فِعَل. وحكى سيبويه لحم زِيَم ولم يُنَوَّن الحسنُ {سوى} أجرى الوصلَ مُجْرى الوقف. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ مَنَعَ صَرْفَه للعَدْل على فُعَلٍ كعُمَر لأن ذلك في الأعلام. وأمَّا فُعَل في الصفاتِ فمصروفَةٌ نحو: حُطَم ولُبَد.
وقرأ عيسى بن عمر {سِوى} بالكسر من غيرِ تنوين. وهي كقراءة الحسنِ في التأويل.
وسوى معناه عَدْلًا ونَصَفَة. قال الفارسي: كأنه قال: قُرْبُه منكم قُرْبُه مِنَّا. قال الأخفش: {سوى} مقصورٌ إنْ كَسَرْتَ سينَه أو ضَمَمْتَ، وممدودٌ إنْ فَتَحْتَها، ثلاثُ لغات، ويكون فيها جميعها بمعنى غير، وبمعنى عَدْل ووسط بين الفريقين. قال الشاعر:
وإنَّ أبانا كان حَلَّ ببلدةٍ ** سِوَىً بين قَيْسٍ قيسِ عَيْلانَ والفِزْرِ

قال: وتقول: مررتُ برجلٍ سِواك وسُواك وسَوائِك أي: غيرِك ويكون للجميع وأعلى هذه اللغاتِ الكسرُ، قاله النحاس. وزعم بعضُ أهلِ اللغة والتفسير أنَّ معنى مكانًا سوى: مستوٍ من الأرض، لا وَعْرَ فيه ولا حُزُوْنَة.
قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة}: العامَّةُ على رفع {يومُ الزينة} خبرًا ل {موعدُكم}. فإنْ جَعَلْتَ {موعدكم} زمانًا لم تَحتجْ إلى حَذْفِ مضاف؛ إذ التقديرُ: زمانُ الوعدِ يومُ الزينة، وإن جعلتَه مصدرًا احتجْتَ إلى حَذْفِ مضافِ تقديرُه: وَعْدُكم وَعْدُ يومِ الزينة.
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى وعاصم في بعض طُرُقِه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة {يومَ} بالنصب. وفيه أوجهُ، أحدها: أن يكونَ خبرًا ل {موعدكم} على أنَّ المرادَ بالموعد المصدرُ أي: وعْدُكم كائن في يوم الزينة كقولِك: القتالُ يومَ كذا والسفر غدًا.
الثاني: أن يكونَ {موعدُكم} مبتدًا، والمرادُ به الزمان، و{ضُحَى} خبرُه على نيةِ التعريفِ فيه؛ لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه، قاله الزمخشري، ولم يُبَيِّنْ ما الناصبُ ل {يومَ الزينة}؟ ولا يجوز أن يكونَ منصوبًا، ب {موعدُكم} على هذا التقديرِ؛ لأنَّ مَفْعِلًا مرادًا به الزمانُ أو المكانُ لا يعملُ وإنْ كان مشتقًا، فيكونُ الناصبُ له فعلًا مقدَّرًا. وواخذه الشيخ في قوله على نيةِ التعريف قال: لأنَّه وإن كان ضُحى ذلك اليومِ بعينه فليس على نية التعريفِ، بل هو نكرةٌ، وإن كان من يومٍ بعينه؛ لأنه ليس معدولًا عن الألفِ واللام كسَحَر ولا هو معرَّفٌ بالإِضافةِ ولو قلت: جئت يوم الجمعة بَكَرًا لم نَدَّعِ أن بَكَرًا معرفةٌ وإن كنت تعلمُ أنه من يومٍ بعينه.
الثالث: أن يكونَ {موعدُكم} مبتدًا، والمرادُ به المصدرُ و{يومَ الزينةِ} ظرفٌ له. و{ضحى} منصوبٌ على الظرفِ خبرًا للموعد، كما أخبر عنه في الوجهِ الأول بيوم الزينة نحو: القتالُ يومَ كذا.
قوله: {وَأَن يُحْشَرَ} في محلِّه وجهان، أحدُهما: الجرُّ نَسَقًا على الزينة أي: موعدُكم يومُ الزينة ويومُ أن يُحْشر. أي: ويومُ حَشْرِ الناس. والثاني: الرفعُ: نَسَقًا على {يومُ} التقديرُ: موعدُكم يومُ كذا، وموعدكم أَنْ يُحْشَرَ الناسُ أي: حَشْرُهم.
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو نهيك وعمرو بن فائد {وأن تَحْشُرَ الناسَ} بتاء الخطاب في {تَحْشُرَ}، ورُوي عنهم {يَحْشُرَ} بياء الغَيْبة. و{الناسَ} نصبٌ في كلتا القراءتين على المفعوليَّة. والضميرُ في القراءتين لفرعونَ أي: وأَنْ تَحْشُرَ أنت يا فرعونُ، أو وأن يَحْشُرَ فرعونُ. وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميرَ اليوم في قراءة الغَيْبة؛ وذلك مجازٌ لمَّا كان الحشرُ واقعًا فيه نُسِبَ إليه نحو: نهارُه صائمٌ وليلُه قائمٌ.
و{ضُحَىً} نصبٌ على الظرف، العاملُ فيه {يُحْشَر} وتُذَكَّر وتؤنَّث. والضَّحاء بالمد وفتح الضاد فوق الضحى؛ لأن الضُّحى ارتفاعُ النهارِ، والضَّحاء بعد ذلك، وهو مذكَّرٌ لا غير.
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)}.
قوله: {كَيْدَهُ}: فيه حَذْفُ مضافٍ أي: ذوي كيدِه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)}.
امره بجهره، وأعماه عن شهود ذلك بِسِره، فما نَجَعَ فيه كلامهُ، وما انتفعَ بما حذّره من انتقامه، ويَسَّرَ من إنعامه.
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)}.
دعاهم موسى إلى الله، وخاطَبَهُم في حديث الآخرة من تبشيرٍ بثواب، وإنذارٍ بعذاب فلم يُجِيبُوا إلاَّ من حيث الدنيا، وما زادهم تذكيرًا إلا ازدادوا غفلة وجهالة.
كذلك صفةُ مَنْ وَسَمه الحقُّ بالإبعاد، لم يكن له عرفان، ولا بما يقال إيمان، ولا يتأسَّفُ على ما يفوته، ولا تصديق له بحقيقة ما هو بصدده.
قوله: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَّ نَخْلِفُهُ} تأَهَّبُوا لِمُنَاصَبَةِ الحقيقة، وتَشَمَّرُوا للمُخَالَفة، فَقَصَمْتُهُم المشيئةُ؛ وكَبَسَتْهُم؛ القدرة، وما قيل:
استقبلني وسيفُه مسلول ** وقال لي واحدنا معذول

{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)}.
فكان في ذلك اليوم افتضاحهم.
قوله جلّ ذكره: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتَى}.
كادَ فرعونَ فَكِيد لَه، وأراد فارتدَّ إليه، ودعا للاستعداد فأُذِلَّ وأَذِيقَ البأسَ. ولم يَدَعْ موسى شيئًا من الوعظ والرِّفْقِ، ولم يغادِرْ فرعونَ شيئًا من البَلَهِ والحُمْقِ. اهـ.

.تفسير الآيات (62- 64):

قوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تشوف السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك، استأنف سبحانه الخبر عنه بقوله: {قال لهم} أي لأهل الكيد وهم السحرة وغيرهم {موسى} حين رأى اجتماعهم ناصحًا لهم: {ويلكم} يا أيها الناس الذين خلقهم الله لعبادته {لا تفتروا} أي لا تتعمدوا أن تصنعوا استعلاء {على الله كذبًا} بجعلكم آياته العظام الثابتة سحرًا لا حقيقة له، وادعائكم أن ما تخيلون به حق وليس بخيال، وإشراككم به؛ وسبب عنه قوله: {فيسحتكم} أي يهلككم؛ قال الرازي: وأصله الاستئصال {بعذاب} أي عظيم تظهر به خيبتكم {وقد خاب} كل {من افترى} أي تعمد كذبًا على الله أو على غيره {فتنازعوا} أي تجاذب السحرة {أمرهم بينهم} لما سمعوا هذا الكلام، علمًا منهم بأنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جميع جنوده وأتباعه لم يسلم منه إلا من الله معه {وأسروا النجوى} أي كلامهم الذي تناجوا به وبالغوا في إخفائه، فإن النجوى الإسرار، لئلا يظهر فرعون وأتباعه على عوارهم في اختلافهم الذي اقتضاه لفظ التنازع، فكأنه قيل: ما قالوا حين انتهى تنازعهم؟ فقيل: {قالوا} أي السحرة بعد النظر وإجالة الرأي ما خيلهم به فرعون تلقنًا منه وتقربًا إليه بما ينفر الناس عن موسى وهارون عليهما السلام ويثبطهم عن اتباعهما وإن غلبا، لأنه لا ينكر غلبة ساحر على ساحر آخر: {إن هذان} أي موسى وهارون وقرىء: هاذان- بالألف، على لغة من يجعل ألف المثنى لازمة في كل حال؛ قال أبو حيان: وهي لغة لطوائف من العرب لبني الحارث بن كعب وبعض كنانة خثعم وزبيد وبني العنبر وبني الهجيم ومراد وعذره.
{لساحران} لا شك في ذلك منهما {يريدان} أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها {أن يخرجاكم} أيها الناس {من أرضكم} هذه التي ألفتموها، وهي وطنكم خلفًا عن سلف {بسحرهما} الذي أظهراه لكم وغيره.
ولما كان كل حزب بما لديهم فرحون قالوا: {ويذهبا بطريقتكم} هذه السحرية التي تعبتم في تمهيدها، وأفنى فيها أسلافكم أعمارهم، حتى بلغ أمرها الغاية، وبدينكم الذي به قوامكم {المثلى} أي التي هي أمثل الطرق، فيكونا آثر بما يظهرانه منها عند الناس منكم، ويصرفان وجوه الناس إليها عنكم، ويبطل ما لكم بذلك من الارزاق والعظمة عند الخاص والعام وغير ذلك من الأغراض {فأجمعوا كيدكم} أي لا تدعوا منه شيئًا إلا جئتم به ولا تختلفوا تضعفوا {ثم ائتوا} إلى لقاء موسى وهارون لمباراتهما {صفًا} أي متسابقين متساوين في السباق ليستعلي أمركم عليهما فتفلحوا، والاصطفاف أهيب في صدور الرائين.
ولما كان التقدير: فمن أتى كذلك فقد استعلى، عطف عليه قولهم محققًا: {وقد أفلح اليوم} في هذا الجمع الذي ما اجتمع مثله قط {من استعلى} أي غلب ووجد علوه، أي ففعلوا ما تقدم وأتوا صفًا. اهـ.